سورة النحل - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


الضمير في قوله {ويجعلون} للكفار، وقوله {لما لا يعلمون} يريد الأصنام، ومعناه لا يعلمون فيهم حجة ولا برهاناً، ويحتمل أن يريد بقوله: {يعلمون} الأصنام، أي يجعلون لجمادات لا تعلم شيئاً {نصيباً}، فالمفعول محذوف، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل، وبحسب أنه إسناد منفي، وهذا كله ضعيف، والنصيب المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها، والقسم لها من الغلات، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به كما قال بعضهم، والفرية اختلاق الكذب وقوله {ويجعلون لله البنات} الآية، هذا تعديد لقبح قول الكفار: الملائكة بنات الله ورد عليهم من وجهين، أحدهما نسبة النسل إلى الله تعالى عن ذلك، والآخر أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم، و{ما} في قوله {ما يشتهون} مرتفعة بالابتداء، والخبر في المجرور قبله، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفاً على {البنات}، والبصريون لا يجيزون هذا لأنه من باب ضربتني، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون، والمراد بقوله {ما يشتهون}: الذكران من الأولاد، وقوله {وإذا بشر} لما صرح بالشيء المبشر به حسن ذكر البشارة فيه وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير، وقوله {ظل وجهه مسوداً} عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة وتذهب شراقته، فلذلك يذكر له السواد، و{كظيم} بمعنى كاظم كعليم وعالم، والمعنى أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى، وقوله {يتوارى من القوم} الآية، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى إنما هو بعد البشارة بالأنثى، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق توارى حتى يخبر بأحد الأمرين، فليس المراد في الآية، ويشبه أن ذلك كان إذا أخبر بسارّ خرج، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ولم يحتج إلى إحداثه، ومعنى {يتوارى} يتغيب، وتقدير الكلام يتوارى من القوم مدبراً {أيمسكه أم يدسه}؟ وقرأت فرقة {أيمسكه} على لفظ {ما أم يدسها} على معنى الأنثى، وقرأ الجحدري {أيمسكها أم يدسها} على معنى الأنثى في الموضعين، وقرأ الجمهور {على هُون} بضم الهاء، وقرأ عيسى بن عمر {على هوان}، وهي قراءة عاصم الجحدري، وقرأ الأعمش {على سوء}، ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له، أم يدسها فيدفنها حية، فهو الدس في التراب، ثم استفتح تعالى بالإخبار بسوء حكمهم وفعلهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله.


قالت فرقة {مثل} في هذه الآية بمعنى صفة، أي لهؤلاء صفة السوء ولله الوصف الأعلى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يضطر إليه، لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله {مثل} على بابه، وذلك أنهم إذا قالوا إن البنات لله فقد جعلوا له مثلاً أبا البنات من البشر، وكثرة البنات عندهم مكروه ذميم، فهو مثل السوء الذي أخبر الله تعالى أنه لهم ليس في البنات فقط، لكن لما جعلوه هم في البنات جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار، وقوله {ولله المثل الأعلى} على الإطلاق أيضاً في الكمال المستغني، وقال قتادة: {المثل الأعلى} لا إله إلا الله، وباقي الآية بين، وقوله {ولو يؤاخذ الله الناس} الآية، وآخذ هو تفاعل من أخذ، كأن أحد المتواخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء، وهي لغتان واخذ وآخذ، و{يؤاخذ} يصح أن يكون من آخذ، وأما كونها من واخذ فبين، والضمير في {عليها} عائد على الأرض، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس:
حتى إذا ألقت يداً في كافر *** وأجنَّ عورات البلاد ظلامُها
ومنه قول تعالى {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] ولم يجر للشمس ذكر، وقوله {من دابة} دخلت {من} لاستغراق الجنس، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لم أخذ الناس بعقاب يستحقونه بظلمهم في كفرهم ومعاصيهم لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء: كاد الجُعَل أن يهلك بذنوب بني آدم، ذكره الطبري، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة»، وسمع أبو هريرة رجلاً يقول: إن الظالم لا يهلك إلا نفسه، فقال أبو هريرة: بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلاً بذنوب الظلمة، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم، وقالت فرقة: قوله: {من دابة}، يريد من أولئك الظلمة فقط، ويدل على هذا التخصيص، أن الله لا يعاقب أحداً بذنب أحد، واحتجب بقول الله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] وهذا معنى آخر، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحداً بسبب إِذْنَاب غيره، ولكن إذا أرسل عذاباً على أمة عاصية، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب، فأصابه العذاب لا بأنه له مجازاة، ونحو هذا قوله
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال «نعم إذا كثر الخبث»، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء، وذلك بترك التغير ومداهنة أهل الظلم ومداومة جوارهم، والأجل المسمى في هذه الآية هو بحسب شخص شخص، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز، وقوله {ما يكرهون} يريد البنات، و{ما} في هذا الموضع تقع لمن يعقل من حيث هو صنف وقرأ الحسن {ألسنتهم الكذب} بسكون النون كراهية توالي الحركات، وقرأ الجمهور {الكذِب} بكسر الذال، ف {أن} بدل منه، وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام {الكُذُب} بضم الكاف والذال والباء على صفة الألسنة، و{أن لهم} مفعول ب {تصف}، و{الحسنى} قال مجاهد وقتادة: الذكور من الأولاد، وهو الأسبق من معنى الآية، وقالت فرقة يريد الجنة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا قوله {لا جرم أن لهم النار} ومعنى الآية على هذا التأويل يجعلون لله المكروه ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة، كما تقول لرجل أنت تعصي الله، وتقول مع ذلك أنت تنجو، أي هذا بعيد مع هذا، ثم حكم عليهم بعد ذلك بالنار، وقد تقدم القول في {لا جرم}، وقرأ الجمهور {أن لهم} بفتح الهمزة، وإعرابها بحسب تقدير {جرم}، فمن قدرها بكسب فعلهم فهو نصب، ومن قدرها بوجب فهو رفع، وقرأ الحسن وعيسى بن عمران {إن لهم} بكسر الهمزة وقرأ السبعة سوى نافع {مفرَطون} بفتح الراء وخفتها، ومعناه مقدمون إلى النار والعذاب، وهي قراءة الحسن والأعرج وأصحاب ابن عباس، وقد رويت عن نافع، وهو مأخوذ من فرط الماء وهم القوم الذين يتقدمون إلى المياه لإصلاح الدلاء والأرشية، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض» ومنه قول القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجل فرّاطٌ لورّاد
وقالت فرقة: {مفرطون} معناه مخلفون متركون في النار منسيون فيها، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي هند، وقال آخرون {مفرطون} معناه مبعدون في النار، وهذا قريب من الذي قبله، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {مُفَرِّطون} بكسر الراء وتشديدها وفتح الفاء، ومعناه مقصرون في طاعة الله تعالى، وقد روي عنه فتح الراء مع شدها، وقرأ نافع وحده {مُفرِطون} بكسر الراء وخفتها، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي رجاء وشيبة بن نصاح وأكثر أهل المدينة، أي يتجاوزون الحد في معاصي الله عز وجل.


هذه آية ضرب مثلاً لهم بمن تقدم وفي ضمنها وعيد لهم وتأنيس للنبي صلى الله عليه ولم، وقوله {اليوم} يحتمل أن يريد يوم الإخبار بهذه الآية، وهو بعد موت أولئك الأمم المذكورة، أي لا ولي لهم منذ ماتوا واحتاجوا إلى الغوث إلا الشيطان، ويحتمل أن يريد يوم القيامة، والألف واللام فيه للعهد، أي {هو وليهم} في اليوم المشهور وهو وقت الحاجة والفصل، ويحتمل أن يريد {فهو وليهم} مدة حياتهم، ثم انقطعت ولايته بموتهم، وعبر عن ذلك بقوله {اليوم} تمثيلاً للمخاطبين بمدة حياتهم، كما تقول لرجل شاب تحضه على طلب العلم: يا فلان لا يدرس أحد من الناس إلا اليوم، تريد في مثل سنك هذه. فكأنه قال لهؤلاء: {فهو وليهم} في مثل حياتكم هذه، وهي التي كانت لهم، وسائر الآية وعيد، وقوله {وما أنزلنا عليك الكتاب} يريد القرآن، وقوله {لتبين} في موضع المفعول من أجله، وقوله {وهدى ورحمة} عطف عليه، كأنه قال إلا للبيان أي لأجل البيان لهم، وقوله {الذي اختلفوا فيه} لفظ عام لأنواع كفر الكفرة من الجحد بالله تعالى، أو بالقيامة، أو بالنبوءات، أو غير ذلك، ولكن الإشارة في هذه الآية إنما هي لجحدهم الربوبية وتشريكهم الأصنام في الألوهية، ويدل على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدالة على أن الأنعم وسائر الأفعال إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام. وقوله تعالى {والله أنزل من السماء ماء} الآية، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل، وحياة الأرض وموتها استعارة وتشبيه بالحيوان، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة فهي كالميت، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية فهي كالحي، وقوله {يسمعون} يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه، لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، و{الأنعام} هي الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز، و{العبرة} الحال المعتبر فيها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف والحسن وأهل المدينة {نَسقيكم} بفتح النون من سقى يسقي، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم {نُسقيكم} بضم النون من أسقى يُسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة، قال بعض أهل اللغة، هما لغتان بمعنى واحد، وقالت فرقة: تقول لمن تسقيه بالشفة أو في مرة واحدة سقيته وتقول لمن تُعِدُّ سقيه أو تمنحه شرباً أسقيته، وهذا قول من قرأ {نسقيكم}، لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى، قول لبيد: [الوافر]
سقى قومي بني بدر وأسقى *** نميراً والقبائل من هلال
وذلك لازم لأنه لا يدعو لقومه بالقليل، وقرأ أبو رجاء {يسقيكم} بالياء أي يسقيكم الله، وقرأت فرقة {تسقيكم} بالتاء وهي ضعيفة وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين وقوله {مما في بطونه}، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور كما قال الشاعر: مثل الفراخ نتفت حواصله، وهذا كثير لقوله تعالى {إن هذه تذكرة} [الإنسان: 29] {فمن شاء ذكره} [المدثر: 55] وقيل: إنما قال: {مما في بطونه}، لأن الأنعام والنعم واحد فرد الضمير على معنى النعم وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام، والفرث ما ينزل إلى الأمعاء، والسائغ السهل في الشرب اللذيذ، وقرأت فرقة {سيّغاً} بشد الياء، وقرأ عيسى الثقفي {سيْغاً} بسكون الياء وهي تخفيف من سيغ كميت وهين، وليس وزنهما فعلاً، لأن اللفظة واوية، ففعل منها سوغ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9